الثلاثاء، 24 أبريل 2012

الحلقة الخامسة :تأصيل قيمة العدل والمساواة:
لقد تكرّم المولى سبحانه تبارك وتعالى على الكون كله، بإنزال أعظم وحي، وأكمل تشريع ، على أكرم رسول، وجعله رحمة للعالمين، وذلك مصداقا لقول المولى سبحانه عزّ وجل: "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِين" (الأنبياء: 107). وقد اشتمل هذا الوحي على كلّ التعاليم والمبادئ، والمثل والقيم، والنظم والقوانين والأحكام، وكافّة التشريعات التي تهدى إلى الحق والخير والإصلاح، في شتّى ألوان الحياة، على اختلاف أنواعها وأشكالها، وتعّدد طرقها ودروبها.وجاء في مقدمة دعائم الإصلاح قيام العدل قولا وعملا.
يقول ابن عاشور "وبناء على الأصل الأصيل وهو أن الإسلام دين فطرة، فكل ما شهدت الفطرة بالتساوي فيه بين المسلمين، يفرض فيه التساوي بينهم، وكل ما شهدت الفطرة بتفاوت البشرية فيه فالتشريع بمعزل عن فرض أحكام متساوية فيه[1]، ويكون ذلك موكولا إلى النظم المدنية التي تتعلق بها سياسة الإسلام لا تشريعه"[2]،وما أحوج المسلمين اليوم إلى هذا القول وهذا الرأي إذ كثيرا ما وقع الخلط بين التحديث والحداثة أو بين التحديث والتغريب لكان المسلمون مثل اليابان اليوم ينافسون الغرب في كل مجال ويتجاوزونه ولم يضطروا إلى تغيير نظام الأسرة من نظامها التقليدي إلى النظام الحداثي أو ما بعد الحداثي على سبيل المثال لأنهم ليسوا في حاجة إلى ذلك.
ومن القيم اللصيقة بالعدل عند الشيخ بن عاشور تأخذ تقريبا نفس المعنى هو عده المساواة صنو العدل محددا مجال إطلاق المساواة وهو ما يقتضي التماثل Equality  والعدل الذي لا يقتضي ذلك ويسمى "ُEquity" كما انتهى إليه دعاه فلسفة الفيمينيزم مؤخرا فيما يخص المساواة بين الرجل والمرأة؛ يقول الشيخ ابن عاشور:" فالمساواة في التشريع للأمة ناظرة إلى تساويهم في الخلقة وفروعها، مما لا يؤثر التمايز فيه أثرا في صلاح العالم، فالناس سواء في البشرية " كلكم لآدم "، وفي حقوق الحياة في هذا العلم بحسب الفطرة، ولا أثر لما بينهم من الاختلاف بالألوان والصور والسلائل والمواطن. فلا جرم نشأ عن هذا الاستواء فيما ذكر تساويهم في أصول التشريع، مثل حق الوجود المعبر عنه بحفظ النفس وحفظ النسب، وفي وسائل الحياة المعبر عنها بحفظ المال "[3].
والعدل عند الشيخ بن عاشور أمر ليس مثار جدل بين جميع البشر حيث يقول:" العدل مما تواطأت على حسنه الشرائع الإلهية والعقول الحكيمة، وتمدح بادعاء القيام به عظماء الأمم، وسجلوا تمدحهم على نقوش الهياكل... "[4]،وإنما الأمر يعود إلى مضامين هذا العدل والمعايير التي نقيس بها المسافات بين الأطراف المتعادلة ومن هنا جعل العدل مرتبطا بالحق وكتب فصلا بعنوان"تعيين الحق" ثم قال :"وهذا مقصد مهم من أصول النظام الاجتماعي الذي سنه الإسلام للمجتمع الإسلامي وله مزيد ارتباط بأصل الحرية إطلاقا وتحديدا لأن استعمال الحرية محوط بسياج الحقوق، وتحديد الحرية مرجعه إلى مراعاة الحقوق التي تدحض الانطلاق في استعمال المرء حريته كما يشاء"[5]،والإنسان يحس بحريته على قدر ما أحس بالعدل ومظاهره كما يزداد تشبثا بالحق كلما تأكد أنه حر وعومل معاملة عادلة ذلك أن" حسن العدل مستقر في الفطرة، فإن كل نفس تنشرح لمظاهر العدل ما كانت النفوس بمعزل عن هوى يغلب عليها في قضية خاصة أو في مبدأ خاص تنتفع فيه بما يخالف العدل بدافع إحدى القوتين الشاهية والغاضبة "[6].
والشيخ بن عاشور هنا يبين مدى ارتباط القيم الإسلامية الكبرى بعضها ببعض بل وكيف يفسر بعضها بعضا ويتوقف وجود بعضها على وجود البعض الآخر بما يشكل نظاما كما يعبر عنه الإنجليز"values system" ورغم الشيخ لست أدري قد اطلع على أقوال الفلاسفة في تقسيم القيم إلى"الحق والخير والجمال" أم لا ولكن بعقليته العربية الإسلامية الأصيلة لم يجاريهم في تناول القضايا القيمية إلا أنه أتى على أكثرها وبنفس المصطلحات وكان حريا أن يجعل كتاب الشيخ ابن عاشور"أصول النظام الاجتماعي في الإسلام" مقررا في كليات الحقوق والعلوم الإنسانية ليشكل قاعدة معرفية أصيلة للطلبة حتى تصقل أذهانهم وقرائحهم لإبداع البدائل بدل اجترار النظريات الغربية بكل تحيزاتها.



[1] -كم تمنيت لو أن هذا القول قيل أثناء بداية نشوب الخلاف بين المسلمين من أهل  السنة والمعتزلة أصحاب العدل والتوحيد كما يسمون لكان القول بالفطرة جمعا بين رأي المعتزلة الذين يرجعون كل شيء إلى العقل بالمعنى الأرسطي ولما وقعوا في الخلاف بين أهل السنة الذين يعتقدون أن الإسلام هو الفطرة بنصوصه .
[2] -ابن عاشور، مقاصد الشريعة، ج3ص279-280.
[3] -ابن عاشور، مقاصد الشريعة، ج3 ص280.
[4] -ابن عاشور، أصول النظام الاجتماعي، 174-175.
[5] -المرجع السابق ص167.
[6] -المرجع السابق ص175.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق