السبت، 7 أبريل 2012

تاصيل القيم الكبرى عند ابن عاشور -الحلقة الثانية-

منطلقات تأصيل القيم عند ابن عاشور
أولا:مفهوم التأصيل عند ابن عاشور:
التأصيل من المفاهيم التي ظهرت ضمن أدبيات الفكر الإسلامي المعاصر لما بدأت تتجاذبه ثنائيات القديم والحديث والتراث والمعاصرة وكانت هذه الثنائيات تتصادم في ساحتنا الفكرية المعاصرة تأخذ أشكالا اقتصادية وتارة سياسية وأخرى اجتماعية وكأنهما فسطاطان أو كأنهما بحران بينهما برزخ لا يبغيان والسبب في اعتقادي هو عدم الوصول إلى النقطة النوعية في العلم والوعي التي تتجاوز الأمرين معا وممن لا يجد غضاضة في القيمتين معا روافد مدرسة الإصلاح التي بدأها الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا وصولا إلى الدكتور أبي سليمان الذي جمع بين ثنائيتي الأصالة والمعاصرة في تعبير لطيف هو"الأصالة الإسلامية المعاصرة"[1] والمعروف عن هذه المدرسة عدم التبسيط في تجاوز الفكر الغربي خلافا للموقف السلفي التقليدي الذي يلغي الغرب فكريا بينما قد يمارسه عمليا والموقف العلماني المتماهي مع الفكر الغربي فكرا وممارسة .
والشيخ ابن عاشور يعد من رواد مدرسة الإصلاح  بلا منازع لتعدد مصادر التجربة عنده إذ تسلح  بالعمق العلمي في الفكرين العربي بمختلف علومه والفكر الغربي ومارس كثيرا من المهام في ظل تواجد المستعمر الفرنسي وكان يطلع على أدبيات الجمعيات الثقافية و الأحزاب السياسية المختلفة فتكونت عنده أدبيات وتصورات معرفية متينة بأصول النظم والأفكار المنتشرة حينها وكان محيطا بمختلف الفنون الشرقية والغربية حتى الرسوخ ومن هنا أخذ التأصيل معنى"إرجاع الأمور إلى أصولها"ولا غرو فقد كتب كتابا بعنوان "أصول النظام الاجتماعي في الإسلام" والمتتبع لمباحث الكتاب يجد الأصول بمعان كثيرة:

1-الأصول بمعنى المبادئ وهي تعاليم الوحي من القرآن والسنة التي أخذت أحسن التطبيقات في التاريخ فيقول:"وإن إلقاء نظرة واسعة لهيئة مجتمع الأمة المتدينة بالإسلام في أزهر عصور اتباع تعاليمه لكاف للمتأمل الألمعي في تصور معظم مبادئ ذلك الدين ،وبهذا كان المتطلع على ملاك محاسن هذا الدين مفتقرا إلى مطالعة تاريخ المسلمين في زمن النبوءة وزمن الخلفاء الراشدين فمن يليهم"[2]،وهذا هو مقصده من الكتاب المذكور.

2-الأصول بمعنى الهيئة الأولى التي نشأ عليها الإنسان وتربى عليها وهي "الفطرة" وهذا القدر هو الذي جعله الله عز وجل مشتركا بين جميع البشر يقول ابن عاشور:"لأن شعوب البشر وهم مختلفون في الأخلاق والعوائد والمشارب والتعاليم لا يمكن جمعهم جمعا عمليا غير وهمي في جامعة واحدة ما لم يكن عمودها وقاعدتها شيئا مرتكزا في سائر النفوس،وقدرا مشتركا بينهم لا يتخلف ولا يختلف...ثم يقول....وأحسبك بعد أن رأيت ما في وصف الإسلام بأنه دين الفطرة من الإيجاز الجامع توقن بأن هذا الوصف العظيم صالح لأن يكون الأصل العام لفهم مناحي التشريع والاستنباط منها فهو أولى الأوصاف بأن يجعل أصلا جامعا لكليات الإسلام"[3] .وهذا المفهوم اهتدى إليه كثير من المشرعين الغربيين حيث إنهم اكتشفوا ما يسمى ب"القانون الطبيعي" وهي الحالة المبسطة المتصورة التي ينطلقون منها في وضع القوانين وتسمى عندنا في المجال الأصولي بالبراءة الأصلية أو الإباحة الأصلية ثم تنشأ القوانين والالتزامات كما سنرى في مبحث تأصيل الحرية ،كما يلجأ إليه المخططون للنظم الاجتماعية حيث يعمدون إلى ما يسمى"النماذج المثالية الواقعية" كاختيار أحد المدن في أمريكا لتجريب مقاربة في تطبيق "نظام الديموقراطية" ثم يتم تعديل النموذج العام المعقد انطلاقا من النموذج الأمثل المصغر المبسط ،كما عمدت ماليزيا إلى اختيار جزيرة لتطبيق التعامل بالدينار الذهبي وهو أشبه بالمقاربة العلمية في رصد مؤشرات النجاح من عدمه ومتابعة الخلل وتصحيحه بما يشبه المشتلة عند المزارعين .

3-الأصول:بمعنى الطرائق والمناهج المحكمة كقولنا مثلا أصول الحرفة وأصول الطبخة وأصول الفن الفلاني أي مجموع الأساليب والقواعد التي اكتسبها الشخص المزاول لحرفة معينة بحيث تخرج مخرج الجمال من شدة الإتقان وكثرة الخبرة والإصرار على مراعاتها وتسمى ب"أسرار المهنة" غالبا، ومن هذه الأصول المراعاة مثلا "الوسطية" حيث يقول ابن عاشور:"وكون التوسط من أوصاف الإسلام ثابت بدلائل كثيرة عند الموازنة بين أحكام الأشياء في الإسلام وأحكام نظائرها في الشرائع السالفة وقد نبه الله على هذه الصفة بقوله:"وكذلك جعلناكم أمة وسطا" وروى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه عن الرسول صلى الله عليه وسلم " أن الوسط هو العدل أي بين الإفراط والتفريط "[4] . والشيخ بهذا يحرر هذا المفهوم من الاستعمال السياسي المبتذل حيث أصبح كل من يوالي أمريكا و إسرائيل هو المعتدل، ومن يدافع عن حقوقه هو المتطرف والمغالي، كما حرره من التوظيف الإعلامي التنميطي الذي أصبح يقسم الأمة وفق معايير نمطية، كأن يكون الالتزام بالدين إرهابا، أو الانتماء لعرق ما تطرفا على ما درجت عليه الحركات العرقية، عند ظهور الفكر العنصري في الغرب خلال القرن التاسع عشر.
وقد بذل الشيخ ابن عاشور جهدا لغويا وأصوليا على طريقة مسالك إثبات المقاصد في تحقيق هذا الأصل  فيقول: " الوسط بفتح السين في أصل اللغة اسم الشيء المتوسط بين شيئين، والملاحظة الاسمية فيه قبل الوضعية، استوي في الوصف به الواحد والجمع والمذكر والمؤنث لأنه بمنزلة المصدر وأعرق منه في الجمود (أي لا ينصرف) ولذلك جرى وصفا للأمة دون علامة تأنيث "[5].
وهذا المعنى الثاني للأصل هو ما يطلق عليه اليوم ب " المعايير " ويقابله بالانجليزية scheme وهو نموذج تقويمي وتقييمي في آن واحد، وإلى هذا الحد بلغت " ملكة الرجل " العلمية وكأنه يروم أن يقول في كل موضوع قولا فصلا بالتناسب الرياضي المنطقي بين كل المفاهيم وذلك بسبب اتساع مدارك الرجل في مختلف الفنون، فيتساوى عنده نقد القدامى والمحدثين على حد سواء ونقد الأصلاء في فن من الفنون والدخلاء عليه، ويسهل عليه نقد المشاركين له في الملة أو المخالفين على حد سواء، فهو يدرك مرامي كلام المتكلمين، والمفسرين، والمحدثين والفلاسفة واللغويين، بل ويتولى نقد ما يراه ضعيف المدرك والمعنى.

4-الأصول بمعنى الكليات اليقينية التي ترجع إليها الجزئيات والفروع وتسمى بالمقاصد كما تسمى بالقيم وهذا هو الملحظ الذي دفع بالشيخ محمد عبده رحمة الله عليه أن يشير على طالبين من طلبته وهما الشيخ حسنين مخلوف والشيخ محمد الخضر حسين التونسي بالحاجة على تحقيق الموافقات للشاطبي من اجل إحياء هذه القيم الكبرى والكليات اليقينية التي كانت الدافع وراء تأليف الشيخ ابن عاشور لكتابه مقاصد الشريعة حيث يصرح في مقدمته:"ونحن إذا أردنا أن ندون أصولا قطعية للتفقه في الدين حق علينا أن نعمد إلى مسائل أصول الفقه المتعارفة وأن نعيد ذوبها في بوتقة التدوين ونعيرها بمعيار النظر والنقد فننفي عنها الأجزاء الغريبة التي علقت بها ونضع فيها اشرف معادن مدارك الفقه والنظر ثم نعيد صوغ ذلك ونسميه "مقاصد الشريعة"[6].

ثانيا:الإجراءات المنهجية التي سلكها ابن عاشور في التأصيل:
هناك معالم منهجية ومعرفية سلكها الشيخ في عملية التأصيل للقيم بحيث أعاد طرح "نموذج معرفي" غير تقليدي" من أجل التصدي لعملية التأصيل وهذه المعالم هي:

1-اعتبار الأمة وحدة التحليل:
وهذا المنحى هو ما توصل إليه المرحوم د.عبد الوهاب المسيري من خلال نماذجه في دراساته المقارنة للنموذج الإسلامي والنموذج العلماني حيث توصل إلى أن"وحدة التحليل "في النظام السياسي الإسلامي ليس هو الدولة أو العرق في بعض الأنظمة المعرفية الأخرى ولكن هو"الأمة" بالمعنى القرآني والشيخ بن عاشور قد جعل كل الأحكام سواء كانت ابتدائية أو قضائية أو سياسية إنما تتمحور حول مقصد "حفظ الأمة" فهو يبوب في كتابه "مقاصد الشريعة":مقصد الشريعة من نظام الأمة أن تكون قوية مرهوبة الجانب ،مطمئنة البال"[7] فيرى :"أن أهم مقصد للشريعة من التشريع انتظام أمر الأمة،وجلب الصالح إليها ودفع الضر والفساد عنها،وقد استشعر الفقهاء في الدين كلهم هذا المعنى في خصوص صلاح الأفراد"[8] ويعيب على الفقهاء القدامى تقصيرهم في هذا الشأن وهذا ما يؤكد ما ذهب إليه كثير من رواد الإصلاح المعاصرين كمالك بن نبي وسيد قطب والندوي وكان آخرهم الدكتور عبد الحميد أبو سليمان في كتابه أزمة العقل المسلم حيث يرى أن انعزال العلماء عن الاشتراك في الشأن السياسي العام أثر كثيرا في صياغاتهم الفقهية ومن مظاهر ذلك تضخم جانب فقه العبادت على حساب باقي الجوانب –المعاملات والفكر السياسي فيمضي الشيخ بن عاشور استكمالا للفقرة السابقة:" ولم يتطرقوا-أي العلماء القدامى-إلى بيانه وإثباته في صلاح المجموع العام"[9]، وهذا يستدعي منا كثيرا من الجهد في إعادة طرح القضايا الفقهية وأحكامه ليس في ضوء الصراع مع الطبيعة وإنما في خضم المغالبة مع نظم حضارية قائمة تحتل مساحة من واقعنا الفكري والاجتماعي فمثلا ما جدوى تقسيم الإكراه في المباحث الأصولية إلى ملجئ وغير ملجئ كما عند الأحناف وتقسيمه إلى إكراه بحق وبغير حق كما عند الجمهور نعم هو مفيد ولكن أليس من الأفضل تقسيمه إلى عام وخاص فالعام كالاحتلال كما في فلسطين وكالاستبداد مهما كان نوعه ويفصل في أحكامه بما يجعلنا نرسم خطة للخروج منه وعلى هذا المنوال تطرح قضايا الرخصة والعزيمة ومسائل تطبيق الشريعة وتمثل القيم الإسلامية في مجتمعاتنا.

2-تأسيس المقاصد علما مستقلا عن أصول الفقه:
ولا يعني الشيخ هنا أن يجعل هناك قطيعة معرفية مع أصول الفقه بالمعنى"الباشلاري "للكلمة وإنما نقل علم الأصول نقلة نوعية أخرجه من الانبناء على الأحكام الخمسة وهي من أصعب العمليات الذهنية كما في المنطق المضبب fuzzy logic والمعقدة إلى الانبناء على ثنائية"الكلي والجزئي" أو "المقصد والوسيلة" و"المصلحة والمفسدة" وهنا يضمن العناصر الآتية في نظام التفكير لدى العقل المسلم الذي أثقلته الألغاز الفقهية في الجانب النظري ورتابة الحياة المتخلفة في الجانب السياسي والاجتماعي والاقتصادي فأعاد صياغة النظرية الفقهية والأصولية كليهما على هذا الأساس وهي:
ا-البساطة بالمعنى العلمي والتي هي ضد التعقيد وليس التبسيط الذي يرادف الاختزال وهي من خصائص المنهجية الإسلامية فيريد الشيخ أن يجعلها تحضر في الفكر الإسلامي من أجل سرعة استيعاب مناشط الحياة والتعمق في التجارب وخاصة تحدي المشروع الغربي ذي الطابع الشمولي التفصيلي ولذلك نجده يعبر بقوله"نظام الأمة" وفي الأحكام ب"المقصد" وفي الاجتماع"بالآصرة" وهي كلها ألفاظ من قبيل "الكلي" عند المناطقة وتنصرف إلى "النظام" أو النظم وهذا بعد أن أصبح عقل المسلم  ينزع منزعا جزئيا في تصوراته وفي ممارساته وتفكيره عموما من طائفية وقبلية وقطرية وحزبية ومذهبية وغيرها من خوارم النظام العام للأمة والشريعة على حد سواء.

ب-التداخل الوظيفي والتكامل المعرفي:والشيخ يعلم علما تاما أنه لا مقاصد من دون أصول ولا أصول من دون مقاصد لأن علم الأصول هو مجموع الآلات التي يتوصل بها المجتهد إلى الثمرة وهي الفقه وإنما كان الغرض من هذا هو تدريب المسلم على أن الكليات هي معان ثاوية في الجزئيات وهي أضمن وأأمن في الاجتهاد والتدين من الاكتفاء بالجزئيات ولقد عد الدكتور طه عبد الرحمن أن العقل الذي يراعي الكليات هو أرقى أنواع العقول ويسميه ب"العقل المؤيد" والكليات هي أسمى الحقائق التي تخرجه من الأوهام والتخيلات والاحتراز في الأخذ بالاعتبارات والإصرار على الأخذ بالحقائق لأن الإسلام كله حقائق[10]،ويجري الشيخ مقابلة بين طرق التدين عند الملل السابقة كاليهود والنصارى وغيرهم في انبناء أديانهم على كثير من التخيلات والأوهام والأساطير والنبوءات كما يحث على اعتبار الجزئيات بالنظر إلى أصولها من النصوص وكلياتها من المقاصد لمعالجة آفة التجزيء وآفة الانتقاء التي جعلت الفكر الإسلامي يعاني من اضطرابات في الممارسة والتفكير وبالتالي المراوحة في النقطة الصفرية والحلقات المغلقة.

3-الصياغة الحقوقية بدلا من الواجباتية للنظرية الفقهية
النظام الإسلامي نظام واجباتي بالأصالةDuty based system خلافا للنظام الغربي الذي يعتبر حقوقيا بالدرجة الأولى Right based system،ذلك أن في الإسلام يعد الوحي، بالإضافة إلى ما فيه من معلومات عن الكون والحياة والإنسان والغيب، فهو في المجال التشريعي والتكليفي مبني على الأوامر والنواهي ومن ثم فإن الله عز وجل تكرم علينا بما يصلحنا ويحقق مصالحنا في الدنيا والآخرة بينما في الفكر الغربي نجد الدولة تحتكر كل شيء وما على الإنسان والمواطن إلا أن يفتك منها، بالنضال والمطالبة، ما يحتاج إليه من الحقوق والحريات،والواجبات عندهم ليست ذات طبيعة أخلاقية وإنما ذات طابع مدني عقلي ورغم ذلك فقد لاحظ الشيخ ابن عاشور فعالية هذه الصياغة في تحريك الفرد ووضعه على طريق الجماعية والنضال السياسي والنقابي فجاء كتابه مقاصد الشريعة الإسلامية مصاغا بهذا الشكل فهو في معظم أبوابه "بيان لأنواع الحقوق لأنواع مستحقيها" فكتابه أشبه بنسخة في "حقوق الإنسان المدنية" في الشريعة الإسلامية مرتبطة "بحقوق الله" ،وهذا العمل قام به الشيخ السنهوري ونبه إليه في كتابه"مصادر الحق في الفقه الإسلامي"،وجعل الشيخ بن عاشور "الاجتهاد في تعيين أنواع الحقوق لأنواع مستحقيها"[11].ومن هذا الباب جعل الشيخ العدل والعدالة من المقاصد وقد نص عليها وعلل بها الأحكام كما سنرى لاحقا.

4-مراعاة الفطرة ً:
لقد انطلق ابن عاشور من مرتكز ركين في عملية تأصيله للقيم حيث يعد أول أصولي ينتبه إلى قضية"الفطرة" في معالجته لكثير من القضايا ومن هنا كان فوق الشبهات في تناوله لقضايا سبق للمفكرين الغربيين أن تناولوها من خلال اللجوء إلى الوضع الفطري الذي يعد الأساس الطبيعي الذي ينطلق منه الإنسان في تخطيط حياته وهندسة أوضاعه الاجتماعية والسياسية وكذلك الفقهاء والعلماء المسلمون يقول الشيخ:"ثم إنك لتسمع كثيرا من العلماء والكتاب يصف الإسلام بأنه دين الفطرة غير أنك تجد أكثرهم لا يغوص في هذا الوصف و لا يبلغ إلى الغاية التي لأجلها وصفه بها ،فلا جرم أن كان حقيقا علينا أن نفيض في بيانه:فالفطرة ما فطر –أي خلق-عليه الإنسان ظاهرا أو باطنا أي جسدا أو عقلا ،فسير الإنسان على رجليه فطرة جسدية ،ومحاولة مشيه على اليدين خلاف الفطرة،وعمل الإنسان بيديه فطرة جسدية،ومحاولة عمله برجليه خلاف الفطرة،واستنتاج المسببات من أسبابها والنتائج من مقدماتها فطرة عقلية،ومحاولة استنتاج الشيء من غير سببه المسمى هذا الاستنتاج في علم الجدل بفساد الوضع خلاف الفطرة العقلية،والجزم بما نشاهده من الأشياء هو حقائق ثابتة في نفس الأمر فطرة عقلية "[12].
والشيخ يريد أن يعالج كثيرا من الأوهام التي أخذت شكل المسلمات في وعينا الإسلامي الموروث وعدم اتخاذ معايير دقيقة وعلمية محققة في التعامل مع منتجات الغير بالقبول التام أم الرفض التام ويستخلص في النهاية :"أن المراد بالفطرة الموصوف بها الدين هي الفطرة الإنسانية أي الانفعالات الحاصلة لنفوس البشر في حالة سلامة النفوس من اكتساب التعاليم الباطلة والعوائد السيئة،وهي أساس النظم التي أقيمت عليها الحضارة الأولى في البشر من توخي الصلاح ودرء الفساد وإصابة الحق سواء كان حصولها بالإلهام المودع في الخلقة أو بواسطة تلقين الوحي الإلهي"[13] ، والشيخ بهذا المسلك كان ذا قريحة وقادة وذكية ولم ينسق كما كان سلفه الشيخ خير الدين التونسي رحمه الله لما ذهب يؤصل للتنظيمات فقهيا وكان أول من حاول أن يبيئ(من البيئة) منتجا إداريا غربيا بمنطق فقهي وكذلك ما فعله "على عبد الرازق "في محاولة إنكار وجود نظام الخلافة في الإسلام الذي يعد من القضايا الفطرية مما حدا بالشيخ ابن عاشور أن يرد عليه في كتيب بعنوان"نقد علمي لكتاب الإسلام وأصول الحكم[14] ، وكان من بين فصوله عن الإسلام أنه"رسالة لا حكم ودين لا خلافة" وهي العلمانية الجزئية حسب تعبير خبير العلمانية الدكتور المسيري رحمه الله والشيخ ابن عاشور باهتدائه إلى أصل الفطرة أو مقصد الفطرة هو إرجاع للنظم الفكرية إلى أساس عملي ومشترك إنساني وهو"الفطرة" دونما سقوط في عقدة نقص التي تؤدي إلى خرم الدين ولا عقدة الانكفاء على النفس وتجاهل للمنجزات الحضارية الغربية ومن هذه المنجزات هو هذه النظريات الحقوقية والسياسية التي تبنى على القيم الإنسانية والدخول معها في حوار من أجل تعديلها وجعلها أكثر إفادة لمجتمعاتنا والرجوع بها إلى الأساس الفطري .
ووفقا للاعتبارات السابقة فإننا سنأخذ مجموعة من القيم وننظر كيف أصلها الشيخ محمد الطاهر بن عاشور وهي الحرية والعدالة والمساواة والسلام.
يتبع بحول الله....


[1] -انظر كتابه :أزمة العقل المسلم  وللعلم فإن المسيري أيضا أشار في مقدمة الكتاب الذي ترجمه:"الغرب والعالم" إلى ضرورة الخروج من الثنائيات المتصادمة إلى الكليات الدينامكية ،انظر مقدمة كتاب :"الغرب والعالم" ضمن سلسلة "عالم المعرفة " التي يصدرها المجلس الوطني الكويتي للثقافة.
-[2] ابن عاشور،محمد الطاهر.أصول النظام الاجتماعي في الإسلام. تونس:دار سحنون للنشر والتوزيع، ط2، 2006، ص5.
-[3] المرجع السابق ص19.
[4] -المرجع السابق ص22.
[5] -المرجع السابق ص23. وسنرى أن الشيخ يعتمد هذا الأصل في الكلام عن القيم مثل العدل والتسامح لاحقا.
[6] -ابن عاشور، محمد الطاهر.مقاصد الشريعة.تحقيق ومراجعة الشيخ محمد الحبيب بن الخوجة، قطر: طبعة وزارة الأوقاف القطرية،ط1،2004،ج3،ص22.
[7] -المرجع السابق ص391.
[8] -المرجع السابق ص391 .
[9] -نفس المرجع السابق، نفس الصفحة.
[10] -ابن عاشور.أصول النظام الاجتماعي في الإسلام. ص25 وما بعدها.
[11] -ابن عاشور، مقاصد الشريعة، ج2 ص410.
[12] المرجع السابق ج2ص410.
[13] المرجع السابق ج 2ص17.
[14] -الكتاب مطبوع سنة  1344، المطبعة السلفية ومكتبتها،مصر).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق