الجمعة، 13 أبريل 2012


-تأصيل قيمة الحرية عند ابن عاشور
ا-مفهوم الحرية:
الحرية لغة[1]: كلمة الحرية مصدر صناعي مشتق من الفعل حرّر يحرر تحريرا والاسم: حريّة، وحرّره: أعتقه، والحر من الناس: أخيارهم وأفاضلهم وأشرافهم. والحرّ: الفعل الحسن، والحرّة من النساء: الكريمة الشريفة. وسحابة حرّة: بكرٌ كثيرة المطر.
واستخدام العرب للفظ الحرية ومشتقاتها يأتي بمعان حسنة جميلة، فإذا وصف الإنسان بأنه حرّ: أي أنه لا يقبل الضيم وينأى عن الأفعال الخسيسة، وكذلك المرأة إذا قيل أنها حرّة: أي أنها من أصل طيب ومنبت حسن ونسب أصيل، كما أنها تحافظ على سمعتها وشرفها فيقولون هي من نسب حرّ، أو من أحرار العرب.
 وقد ورد في كتب الحديث الصحاح أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخذ البيعة من النساء
على أن لا يشركن بالله شيئاً، ولا يقتلن أولادهن، ولا يزنين..." فقالت هند بنت عتبة باستغراب: أو تزني الحرة يا رسول الله مخاطبة الرسول !"[2].
 اصطلاحا: لقد تعددت المذاهب في تعريف الحرية، واختلفت الآراء وتباينت تبايناً شديداً في تحديد مصطلح منضبط للحرية، لذلك لا يوجد تعريف اصطلاحي جامع للحرية وإنما يعرف حسب مجاله المعرفي، فنوقشت على مستوى فلسفي، وعلى مستوى فكري وفي التراث الإسلامي لم تناقش بمفهومها المعاصر وإنما استعملت بالمعنى المضاد للرق والعبودية، فناقش الفقه الإسلامي أحكام العبد والأمة وجعلوا للحرية تعريفاً مناسباً لذلك بأن الحر في اصطلاح الفقهاء من خلصت ذاته من شائبة الرق. وأما على المستوى الفكري فقد تكلم فيها القانونيون والسياسيون والمفكرون كثيرا.
-والحرية هي أن يكون الإنسان مختارا في قوله وفعله، لا يعترضه مانع ظالم[3].
-إن حرية الإنسان في الرؤية الإسلامية هي فريضة اجتماعية، وتكليف إلهي، تتأسس عليها أمانة المسؤولية ورسالة الاستخلاف ـ يعني استخلاف الله للإنسان في الأرض ـ التي هي جماع المقاصد الإلهية من خلق الإنسان... فالحرية: هي الإباحة التي تمكن الإنسان من الفعل المعبر عن أرادته في أي ميدان من ميادين الفعل أو الترك، وبأي لون من ألوان التعبير[4].
إذن فالحرية وفق المنظور الإسلامي هي تكليف إلهي يقع من جانبين هما[5]:
الجانب الأول: جانب الفرد ذاته فلا يحق للإنسان التنازل عن أسباب حريته.
الجانب الثاني: الحرية الاجتماعية: فلقد تجاوزت الحرية في النظرة الإسلامية نطاق الفرد ـ أي الحرية الفردية ـ إلى النطاق الاجتماعي ـ أي الحرية الاجتماعية ـ للأمم والجماعات والشيخ بن عاشور ذهب مذهبا متقدما وهو أقرب إلى روح هذه المرحلة بتناوله "لمقصد الحرية" .

ب-الحرية لا تعني الفوضى ولا تعني الخروج عن القانون في كل النظم:
فهذا المفهوم تم تجاوزه فلسفيا في الفكر الغربي. ولعل أهم من أصّل للحرية، وتناولها من جانبها الحقوقي، والمقاصدي، هو ابن عاشور، حيث يقول في كتابه مقاصد الشريعة:"لما تحقق فيما مضى أن المساواة من مقاصد الشريعة الإسلامية لزم أن يتفرع على ذلك أن استواء أفراد الأمة في تصرفهم في أنفسهم مقصد أصلي من مقاصد الشريعة وذلك هو المراد بالحرية ... وقد جاء في كلام العرب على معنيين أحدهما ناشئ عن الآخر:
المعنى الأول:ضد العبودية وهي أن يكون تصرف الشخص العاقل في شؤونه بالأصالة تصرفا غير متوقف على رضا أحد آخر"[6]،وعكسه العبودية التي تعني أن يكون المتصرف غير قادر على التصرف أصالة إلا بإذن سيده.
المعنى الثاني : وهو ناشئ عن المعنى الأول بطريقة المجاز في الاستعمال وهو قدرة الشخص على التصرف في نفسه وشؤونه كما يشاء دون معارض ...كان هذا الإطار يقارب ما يعبر عنه في العربية بلفظ الانطلاق أو الانخلاع من ربقة التقيّد، ولا نعرف في العربية مفردة تدلّ على  هذا المعنى[7].
ثم يقول: " والحرية بكلا المعنيين وصف فطري نشأ عليه البشر، وبه تصرفوا في أول وجودهم على الأرض حتى حدثت بينهم المزاحمة فحدث التحجير "[8].
ومما تقدم نلاحظ أن الحرية جنس تندرج تحته أنواع كثيرة منها حرية التملك وحرية القول أو التعبير وحرية الاعتقاد وحرية الممارسة السياسية وحرية الرأي وحرية العمل وغيرها.

ج-علاقة الحرية بالمقاصد:
لابد من النظر في هذا الموضوع من خلال معاني الحرية التي أوردها الإمام ابن عاشور، أثناء بحثه لموضوع الحرية كمقصد ضروري من مقاصد الشرع، وهي:
1- الحرية بمفهوم نفي العبودية ومعنى ذلك أن يكون تصرف الشخص العاقل في شؤونه بالأصالة تصرفا غير متوقف على رضا أحد.
حيث إن المتتبع للمدونات الأصولية، وللكتب المؤلفة حول المقاصد يجد أن أصحابها – عدا ابن عاشور -لم يجعلوا الحرية مقصداً شرعياً مستقلاً بذاته مع الكليات الخمسة في مرتبة الضروريات؛ لأنها داخلة في ضمنها من حيث كونها أساسا لها،، ولأن غاية الشريعة هي تحقيق المصالح الكبرى للبشرية من حفظ للدين والنفس والعقل والمال والنسل، والحرية فطرة بشرية لا تتحقق هذه المقاصد الضرورية الخمس لحياة الإنسان إلا بها. بل تناولها باعتبارها شرطا من شروط صحة التكليف، وفي كثير من الأحيان عند الحديث عن الإكراه، والآثار الفقهية المترتبة عليه.
وأما في كتابه " أصول النظام الاجتماعي " فقد اعتبر الحرية هي إحدى المصالح الأساسية والضرورية التي يقوم عليها المجتمع ويجب على ولاة الأمور تحقيقها وصيانتها بمعنى إطلاق الحريات السياسية وحرية الإعلام والانتظام والتاليف وترك المجتمع للتعبير عن آرائه بالشكل المؤسسي الذي يراه مهما ونافعا للمجتمع وإذا كان هناك تقييد فيجب أن يكون تقييدا لحماية الحرية كقيمة اجتماعية وسياسية من باب السياسة الشرعية ورغم ذلك يضيق الشيخ بن عاشور هذا التقييد ذلك لأن هذا التقييد للحرية لا ينبغي اللجوء إليه إلا عند الضرورة ومن أجل دوافع ومصالح راجحة، يقول رحمه الله:" إن الحرية خاطر غريزي في النفوس البشرية، فيها (أي الحرية) نماء القوى الإنسانية من تفكير وقول وعمل، وبها تنطلق المواهب العقلية متسابقة في ميادين الابتكار والتدقيق. فلا يحق أن تسام بقيد إلا قيدا يدفع به عن صاحبها ضرا ثابتا أو يجلب به نفعا"[9].
ويؤكد أصالة الحرية و فطريتها في موضع آخر بقوله:" والحرية بهذا المعنى حق للبشر على الجملة، لأن الله لما خلق للإنسان العقل والإرادة وأودع فيه القدرة على العمل فقد أكنَّ فيه حقيقة الحرية وخوله استخدامها بالإذن التكويني المستقر في الخلقة"[10].
وحماية لهذه الحرية باعتبارها مقصدا من مقاصد الشريعة، حرم الإسلام كل ما يؤدي إلى انخرامها، فنفى الإكراه في الدين، وحرم الاعتداء على النفس، قتلا أو استعبادا، أو ترويعا، كما حرم مال الغير وعرضه، وحرم الظلم بأنواعه، ومن جهة أخرى وضع ضوابط للحرية،في إطار تحقيق المصلحة العامة بين بني البشر، ودفع الضرر عنهم بما يوازن بين حرية الإسلام ومصلحة المجتمع، يقول ابن عاشور في هذا المعنى: "ولما كان أفراد البشر سواء في هذا الإذن التكويني، كلٌّ على حسب استطاعته، كان إذا توارد عدد من الناس على عمل يبتغونه ولم يضايق عمل أحدهم مراد غيره بقيت حرية كل واحد خالصة سالمة عن المعارض فاستوفى ما يريد، كالذي يقيم منفردا في مكان، ولكن إذا تساكن الناس وتعاشروا وتعاملوا طرأ بينهم تزاحم الرغبات، فلم يكن لأحدهم بد من أن يقصر في استعمال حريته رعيا لمقتضيات حرية الغير إما بدواعي الإنصاف من نفسه، وإما بتقدم غيره إليه -برغبة أو رهبة- بأن يكف من بعض عمل يريده، لا جرم نشأ في المجتمع البشري شعور بدواعي التقصير من الحرية، ومن شأن ذلك الشعور أن يَحْدُث في تطبيقه ـ حق التطبيق ـ تنازع وتغالب وتهارج ".[11].

2-الحرية ليست في مقابل الدين وليس الدين قيدا للحرية
لقد ادعى بعض فلاسفة الغرب أن الدين هو مجموع القيود والتورعات التي تقف حاجزا أمام الحرية المطلقة لتصرفاتنا"[12]، وفي حقيقة الأمر هذا ينطبق على الأديان التي تبنى على الخيالات والأوهام[13] وليس على الفطرة التي فطر الله الناس عليها لأن الإنسان اجتماعي بطبعه فلا بد أن يخالط غيره كما تقتضيه مصلحة النوع البشري والدين المتساوق مع الفطرة يعطي أيضا معنى للحرية إذ يعتبر الدين أن الإنسان لا يكون حرا إلا إذا تحرر من نوازعه الأرضية غير المشروعة وشهواته التي تستعبده وتدفعه إلى الاعتداء على الآخرين وباختصار كما أورد روزنتال في كتابه"مفهوم الحرية في الإسلام"عن ابن الربيع في كتابه سلوك المالك أن الإنسان الحر هو الذي يضبط نفسه ويحيى حياة طيبة ويفعل الخير دون أن يعترضه أحد[14]،والفرق بين ابن عاشور وروزنتال وغيره من الكتاب من الشرق أو من الغرب هو قوة المدرك ومتانة المنهج في تناول هذه القضية واستخدام المناهج المؤدية إلى القطع في الأحكام وتعزيز الحقائق غير منساق وراء أحلام الشعراء وآمالهم وإن كان ذلك مهما فيقول مثلا عن مقصد الحرية:"فمن استقراء هذه التصرفات ونحوها حصل لنا العلم بأن الشريعة قاصدة بث الحرية بالمعنى الأول ـ يعني إبطال العبودية ـ وأما المعنى الثاني الذي هو تمكن الفرد من التصرف في نفسه وشؤونه كما يشاء دون معارض، فله مظاهر كثيرة هي من مقاصد الإسلام تتعلق بأصول الناس في معتقداتهم وأقوالهم وأعمالهم، ويجمعها أن يكون الداخلون تحت حكم الحكومة الإسلامية متصرفين في أحوالهم التي يخولهم الشرع التصرف فيها، غير وجلين ولا خائفين أحداً"[15].
وهكذا يضيف الشيخ ابن عاشور لبنة إلى بنيان مقاصد الشريعة الإسلامية وخرج من القوالب التي فرضها الإمام الشاطبي ومن سبقه في تناول مقاصد الشريعة وفتح آفاقا في الفكر التشريعي الإسلامي ليصبح مناطحا للفكر الغربي الذي ادعى أهله في لحظة من اللحظات الإطلاق له وكأنه دين جديد


[1] -ابن منظور. لسان العرب. بيروت: دار صادر، ط1، ج4 ص181.
[2] -الفيروز آبادي. القاموس المحيط. بيروت: مؤسسة الرسالة، ط2، 1987، ص478-479.
[3]- عمارة، محمد. عبد الرحمن الكواكبي. القاهرة، الهيئة المصرية العامة للتأليف، 1970م، ص153.
[4] -عمارة، محمد. الإسلام والأمن الاجتماعي. القاهرة: دار الشروق، ط1، 1998،  ص85.
[5] -عمارة، المرجع السابق، ص86-87.
[6] -ابن عاشور.مقاصد الشريعة الإسلامية. ج 3ص371.
[7] -المرجع السابق نفسه.
[8] -ابن عاشور. أصول النظام الاجتماعي 1985، ص162.
[9] -المرجع السابق ص163.
[10] -المرجع السابق ص169.
 [11]-ابن عاشور، أصول النظام الاجتماعي، ص169.
[12] -هذا القول لسالمون ريناك في"التاريخ العام للأديان نقلا عن محمد عبد الله دراز. الدين. دار القلم، 1982،ص36.
[13] -هذا تطبيقا لما أورده الشيخ بن عاشور في فصل إصلاح التفكير عند المسلمين في فصل "لإسلام حقائق لا أوهام" أصول النظام الاجتماعي، مرجع سابق ص25.
[14] -فرانز روزنتال. مفهوم الحرية في الإسلام. ترجمة رضوان السيد ومعن زيادة،دار المدار الإسلامي، 2007، ص129وما بعدها.
[15] -ابن عاشور، مقاصد الشريعة، ج3،ص379.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق