السبت، 5 مايو 2012

الحلقة السادسة:تاصيل قيمة التسامح عند ابن عاشور


لقد طور السياسيون بعد الحرب العالمية الثانية "مفهوم التعايش السلمي" ويقصدون به تعاون الدول في تحقيق مصالحها  دون اللجوء إلى العدوان على بعضها ولكن بمرور الزمن تعقدت المصالح وتغيرت نظم القيم السياسية والثقافية وحدثت حوادث فرضت على الناس إعادة النقاش من جديد حول هذه القيمة ومن تلك الحوادث سقوط المعسكر الشرقي وبعدها ظهر ما يسمى"صدام الحضارات" وبدأ النقاش من جديد حول قيم الحوار والتعايش والتعاون والتسامح وأخذ أبعادا وأشكالا كثيرة منها التسامح بين الأديان والثقافات محاولة تفكيك مقولة "الصدام" وتجنيب العالم ويلاتها وشرورها إلا أن الهجمة على الإسلام لم تكن وليدة القرن الماضي وإنما هي ممتدة عبر العصور ومن أشكال تلك الهجمات الطعن في مفاهيم الإسلام من خلال ملاحظة بعض المفارقات في التاريخ والواقع الإسلاميين والشيخ بن عاشور كان يدرك هذا بل وعاش ردحا من الزمن تحت الاستعمار القاهر المستبد السالب لكل حقوق الناس ويدعي التسامح ويتهم غيره بمجانبته والشيخ بتناوله لهذا المفهوم كان الغرض هو دحض هذه الشبهة والدفاع عن الإسلام ويصرح بالغرض قائلا:" أريد بالتسامح في هذا البحث إبداء السماحة للمخالفين للمسلمين بالدين "[1] وكعادة الشيخ ابن عاشور أن يعيد القيم إلى أصل الفطرة ولكن المبدأ القرآني حاضر بنصه فليس ثمّة أبلغ وأوفى بالقصد من الآية الكريمة " قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم "، في الدلالة على عمق مبدأ التسامح في الإسلام. ذلك أن المساحة المشتركة بين المسلمين وأهل الكتاب مساحة واسعة، وقد جعل الإسلام في قلوب المسلمين متسعاً للتعايش مع بني الإنسان كافّة.
ويعرف الشيخ بن عاشور التسامح بقوله:"التسامح في اللغة مصدر سامحه إذا أبدى له السماحة القوية؛لأن صيغة التفاعل هنا ليس فيها جانبان فيتعين أن يكون المراد بها المبالغة في الفعل مثل :عافاك الله"[2]، ومن أبرز مظاهر التعايش الذي ساد الحضارة الإسلامية عبر العصور، أن الإسلام يعتبر اليهود والنصارى أهلَ ديانةٍ سماويةٍ حتى وإن لم يكن هذا الاعتبار متبادلاً ،بل ويقرن الله عز وجل بين التسامح والإيمان ففي القرآن الكريم الذي هو خزان القيم  يصف الله المؤمنين المتقّين بالتسامح والمسالمة في قوله تعالى: "وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً"(الفرقان:62). وكيف لا والإسلام يُؤثر السلّم على الحرب ، ويدعو إلى المثل الأعلى في جميع المعاملات ، قال تعالى : "وَلاَ تَسْتَوِي الحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ "(فصلت: 34).
ولهذا ربى الله عز وجل المسلمين على هذه القيمة وجعلها المظهر الحقيقي للتدين والتمسك بالدين وهذا ما لاحظه الشيخ بن عاشور فيقول:" السماحة هي سهولة المعاملة في اعتدال، فهي وسط بين التضييق والتساهل. وهي راجعة إلى معنى الاعتدال والعدل والتوسط. ذلك المعنى الذي نوّه به أساطين حكمائنا الذين عنوا بتوصيف أحوال النفوس والعقول، فاضلها ودنيَّها وانتساب بعضها من بعض. فقد اتفقوا على أن قوام الصفات الفاضلة هو الاعتدال "[3]. ثم يقول:" إن حكمة السماحة في الشريعة أن الله جعل هذه الشريعة دين فطرة، وأمور الفطرة راجعة إلى الجبلة، فهي كائنة في النفوس سهل عليها قبولها. ومن الفطرة النفور من الشدة والإعنات"[4].وكم يحزن المسلم عندما يقرأ أن المسلمين في عصر الضعف والتخلف حولوا الإسلام إلى محاكم للتفتيش وأداة للاستبداد والقهر والتجبر على الآخر المخالف في الدين وظنوا أن الإسلام طقوس عبادية أو أشكال معاملاتية  ميتة وحتى نازية في بعض الأحيان وإن كان الأمر ردة فعل على الهجمات الاستعمارية على بلادنا أو إهانة لإخوانهم في مكان ما[5] وإن كان هذا الأمر فإن هذه مفارقة بين الإسلام وواقع المسلمين والإسلام ذاته أصبح غريبا في دياره يقول الشيخ بن عاشور :"إن التسامح من خصائص الإسلام وهو أشهر ميزاته وإنه من النعم التي أنعم بها على أضداده وأعدائه وأدل حجة على رحمة الرسالة الإسلامية...وقد أسس لذلك أسسا راسخة وعقد له مواثيق متينة وقواعد ومنها[6]:

1-القاعدة الأولى:القاعدة الفكرية النفسية:ومفادها "أن القرآن وكلام الرسول صلى الله عليه وسلم في مناسبات يعلم المسلمين أن الاختلاف ضروري في جبلة البشر وأنه من طبع اختلاف المدارك وتفاوت العقول في الاستقامة، وهذا المبدأ إذا تخلق به المرء أصبح ينظر إلى الاختلاف نظره إلى تفكير جبلي تتفاوت فيه المدارك إصابة وخطئا "[7].
2-القاعدة الثانية:الأساس الخلقي:وهي تحويل النظر عن الأمر العدواني المثير للغضب قال تعالى:"ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم"(هود:118).
3-امتصاص التعصب:وسميناه امتصاص لأن الشيخ قال :" إن التسامح في الإسلام وليد إصلاح التفكير ومكارم الأخلاق اللذين هما من أصول النظام الاجتماعي في الإسلام"[8].هذه المقدمة الأولى أما المقدمة الثاني فهي"أن التسامح يظهر مفعوله في المواقع التي هي مظنة ظهور ضده،أعني التعصب،وقد كان للتعصب في الدين مظهران:
ا-النوع الأول وهو أقواها:المعاملات التي تعرض عند الانفعالات الناشئة عن التخالف الديني وضرب الشيخ مثالين من الهند بين المسلمين وما وقع في غزوة أحد بين المسلمين والمشركين وهو ما يسمى "صراع الرموز".
2-والنوع الثاني في المعاملات الدنيوية ...مثل ما عرض للمسلمين واليهود في المدينة[9].
وقد أصاب الشيخ هنا إذ أن الحضارة الإسلامية لم تشهد عبر تاريخها التطهير العرقي ولا الديني ومثال الأول في الغرب ما فعله الفرنسيس الغال  بالكورسكيين والأسبان من كاتالونيا بالباسك والتطهير الديني كما فعله الصرب بالبوسنيين والكرواتيين وبخذنصر باليهود في السبي البابلي المشهور والأوربيين باليهود فيما يسمى ب"معاداة السامية".
القاعدة الثالثة:القاعدة القانونية
يقول ابن عاشور :"لم يحفظ التاريخ أن أمة سوت رعاياها المخالفين لها في دينها برعاياها الأصليين في شأن قوانين العدالة ونوال حظوظ الحياة بقاعدة"لهم مالنا وعليهم ما علينا" مع تخويلهم البقاء على رسومهم وعاداتهم مثل أمة الإسلام فحقيق بهذا الذي نسميه تسامحا أن نسميه "العظمة الإسلامية"[10].
 لقد أسس الإسلام للتسامح أسسا راسخة وعقد له مواثيق متينة وفصل فصلا مبينا بين واجب المسلمين بعضهم مع بعض في تضامنهم وتوادهم من جهة، ما يجعل ما يجمعهم من الجامعة الإسلامية، وبين حسن معاملتهم مع من تقتضي الأحوال مخالطتهم من أهل الملل الأخرى، وقاعدة هذه الأسس هي القاعدة الفكرية النفسية، وتلك هي القرآن وكلام الرسول صلى الله عليه وسلم في مناسبات يعلم المسلمين أن الاختلاف ضروري في جبلة البشر وأنه من طبع اختلاف المدارك،
"فالإسلام دعا الناس إلى الوحدة في دين الفطرة وأراهم محاسنها، ولكنه لم يدْع أتباعه إلى مناوأة من أعرض عن الدخول في تلك الوحدة واختار لنفسه الحالة الناقصة، وبقية أسس التسامح حاصلة بوصايا الإسلام بحسن معاملة المخالفين في الدين ليهذب من الإحساس الذي ينشأ عن المخالفة حتى لا يتجاوز اعتقاد المسلم كمال حاله إلى أن يكون عدواًّ وحنيقاً وبغيضا لأهل الأديان من جهة المخالفة في الدين "[11].



[1] -ابن عاشور، أصول النظام الاجتماعي، ص213.
[2] -المرجع السابق ص213، وهذا فيه رد على ادعاءات أودونيس في أكثر من مناسبة أن التسامح هو تصنع السماحة بما يوحي أن المسلمين ينافقون في إبداء السماحة وأنها ليست أصلا في سلوكهم ولا في دينهم وإنما هي تقية من المغلوب خوفا من بطش الغالب.
[3] -ابن عاشور، مقاصد الشريعة، ج3ص188.
[4] -المرجع السابق ج3 ص192-193.
[5] -في رسالة للدكتوراه بعنوان"الانحرافات الفكرية والعقدية في القرنين الثالث عشر والرابع عشر"يذكر صاحبها علي بن بخيت الزهراني أن في الشام كان هناك طريقان في دمشق طريق المسلمين وطريق دونه للمسيحيين والحيوانات وهذا بسبب اشتداد الإرساليات الغربية التبشيرية وإحساس المسلمين بالخطر من جهة والضعف العلمي والأدبي والمادي لدى المسلمين من جهة أخرى.
[6] -المرجع السابق ص216.
[7] -المرجع السابق ص216-217.
[8] -المرجع السابق ص215.
[9] -المرجع السابق ص217.
[10] المرجع السابق ص219.
[11] -المرجع السابق ص217.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق