الجمعة، 30 مارس 2012

تأصيل القيم العالمية الكبرى عند الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور -الحلقة 1 د.صحراوي مقلاتي


مقدمة في موقع القيم في الرؤية الكونية وأهميتها:

هناك ثلاث رؤى كونية تتنازع الوعي البشري وهي:
1-الرؤية الكونية الدينية وهذه أقدمها وأقواها في السيطرة على تصورات البشر.
2-الرؤية الكونية الفلسفية وهذه غير دائمة الاستقرار ويطالها التغير بسرعة.
3-الرؤية الكونية العلمية وهذه أيضا متغيرة ولكن تغيرها بطيء مقارنة بالثانية ولكنها قاصرة مقارنة بالأولى فهي لا تفسر كل شيء مهما ادعت الاتساع.
وتعرف الرؤية الكونية حسب الدكتور ملكاوي  بأنها "الإطار العام الذي نفهم به كل شيء ونفهم أنفسنا أيضا"[1]،وحسب الدكتور أبي سليمان بأنها:"المبادئ والجذور التي تنبثق منها المفاهيم والقيم وتحدد طبيعتها وتمثل مرجعيتها والغايات والمقاصد التي تعمل على تجسيدها وتضبط استخداماتها ومخرجاتها"[2] ويورد عمر شابرا تعريفا لها في كتابه"نحو نظام نقدي عادل:"بأنها مجموعة المسلمات والأفكار الظاهر منها والخفي التي يحملها الذهن تجاه أصل الكون والحياة ومصير الإنسان"[3] والرؤية الكونية كما تعطي التفسير للقضايا الكلية وتجيب على الأسئلة النهائية فهي كذلك تعطي كيفيات تفصيلية في مجال السلوك، وللرؤية الكونية عادة خاصيتان هما المقدرة التفسيرية والقدرة على ضبط السلوك بإيصال الإنسان إلى الالتزام وهذا الشق الثاني هو الذي يعتبر قيمة أو قيما إذ يلعب دور المعيار وعليه فتعريف القيمة نظريا هي المبادئ العامة التي تشكل معيارا ومرجعا للسلوك وأما إجرائيا كما عند علماء الاجتماع فهي "كل فكرة يتمحور حولها السلوك سلبيا كان أم إيجابيا" ويقرر أبو سليمان أن "كل اختلال في بنية الرؤية الكونية والمنهجية المنبثقة عنها أو في كليهما يؤدي بالأمة إلى السلبية الحضارية...والانحطاط والتخلف"[4]،وبالتالي فإن المعمار الذهني الذي يشكل وعينا Mind set هو انعكاس للواقع الموضوعي الذي نعيشه سواء صنعناه بأنفسنا أم صنعه غيرنا والعملية أشبه ما تكون بالمقابلة التي يجريها علماء اجتماع المعرفة بين الأنساق المعرفية والسياقات الاجتماعية،والقيم تعتبر هي الأوتاد التي تنشدّ إليها السلوكات وتتمحور حولها التصورات وعلى ضوئها يتغير الواقع أو لا يتغير وإذا تغير يتغير إلى سيء أم إلى حسن وقد يكون سريعا وقد يكون بطيئا ومن هنا فإن القيم هي حجر الزاوية في كل بناء معرفي وحضاري على حد سواء وهي التي تشكل الجانب المعياري لما يسمى بالنسق المعرفي القياسي الإسلامي كما اصطلحت عليه الدكتورة منى أبو الفضل رحمها الله.

لماذا علم القيم أو فلسفة القيم؟
عند تأملنا لمجمل المتغيرات التي تحدث من حولنا سواء كانت في المجال السياسي أو الاقتصادي أو الثقافي نجد أن هناك مخاضا كونيا تمر به البشرية اليوم وهذا الأمر يقر به الجميع في كل المستويات وليس المثقفون فقط فعند متابعتنا لما حدث في غزة مؤخرا نجد هناك صراع قيم حيث نجد أن رئيس الوزراء البريطاني السابق ومباشرة بعد مغادرة رئيس الوزراء التركي منصة ندوة دافوس يعلق في قناة البي بي سي الإنجليزية بقوله:"إننا نشهد تحولا عالميا في القيم التي تحكم العلاقات الدولية ويجب أن نتصرف بسرعة وبوعي" ومن هنا بات لزاما علينا نحن المسلمين أن نستدعيها للبحث والمناقشة حتى لا يعاد صياغة المشهد العالمي في جوانبه المختلفة ونحن غائبون "[5] ،والمسلمون هم أكثر الناس اليوم سفكت دماؤهم وانتهكت أعراضهم ونهبت ثرواتهم وسلبت أراضيهم واستبيحت حماهم بسبب ازدواج القيم في المؤسسات العالمية السياسية وغير السياسية للغياب الفكري والسبات الثقافي الذي نحياه اليوم والعجز الاقتصادي والضعف العسكري والهوان النفسي كل هذا يدعونا لأن نطرح مفاهيمنا بشكل مؤصل ونستدعيها على ساحة النزال الفكري والثقافي وتأتي قيمنا على رأس هذه المفاهيم.                                                                                                                   
أهمية الموضوع:
يقسم أهل الفلسفة مجالهم هذا إلى ثلاث قضايا وهي قضايا الوجود "الانطولوجيا" وقضايا المعرفة"الإبستومولوجيا" وقضايا القيم"الأكسيولوجيا" وفلسفة القيم هي فلسفة جد عصرية لأنها لم تظهر كفلسفة لها منهج ومشاكل إلا في بداية القرن الماضي أو قبله بقليل كما يقول الدكتور الربيع ميمون[6] .
ولقد كان الفلاسفة القدامى في العصور السابقة يهتمون بالقيم ضمن ما يهتمون به ولكن طرق معالجتهم لها والمشاكل التي كانت تستوقفهم منها كانت من نوع آخر لأنهم كانوا يجعلون القيمة تابعة للوجود ويعتبرون حل مشاكله هي حل لمشاكلها[7]،ثم استقلت القيم بمباحثها المختلفة وبمقاربات شتى فهناك من جعلها تابعة للدين وتستمد منه وهناك من جعلها منفصلة عنه تماما أي أنها تحولت إلى قيم وضعية وهناك من خلط الأمرين معا وهذا كله في الفكر الغربي بل ووصل الأمر إلى تحويل القيم إلى مجرد أخلاقيات"change values to ethics" أي أن القيم لم تصبح نقاط مرجعية خارجة عن البنية والنظام والسلوك الفني والاحترافي وإنما هناك قيم يفرزها الاحتراف كأخلاقيات المهنة الطبية والمهنة الاتصالية تكون مرجعيتها من داخل النسق الحرفي ذاته ونشهد اليوم النتائج الفضيعة لهذا التوجه في الحروب وفي النظر إلى الأسرة وإلى الاستهلاك فأصبحنا نسمع كلمات ومصطلحات مثل "الإفراط"proprtional  في استخدام القوة و"الإفراط" في الاستهلاك[8]،ومن هنا أضاع الغرب مرجعية القيم فضاعت القيم ذاتها.
وهذه كلها مسوغات طرح موضوعنا إعادة تأصيل القيم في فكرنا الإسلامي المعاصر والشيخ ابن عاشور يمثل نموذجا رائدا من بين من تصدى لمعالجة قضايا القيم وقضايا التجديد المعاصر بصفة عامة.

حدود البحث:
ونحن في هذه الورقة سنقوم بمعالجة ثلاث قيم وهي:
-       قيمة الحرية
-       وقيمة العدل والمساواة
-       وقيمة التسامح
 وإن كان هناك كثير من القيم كالإنسان وقيمة المعرفة وقيمة كرامة الإنسان أو العرض كما تسمى عند الأصوليين وقيمة الأمن وقيمة الأمة وقيمة السلام والحوار ولكن نكتفي بالثلاثة المذكورة أعلاه لتشابك قضاياها وهي تعتبر أكثر المفاهيم التي يثار حولها النقاش اليوم.  يتبع......بحول  الله البحث منشور في الكتاب أدناه
  الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور وقضايا الإصلاح والتجديد في الفكر الإسلامي المعاصر
        • تحرير: فتحي حسن ملكاوي
تدورُ بحوثُ هذا الكتاب حول "سفير الدعوة الإصلاحية في تونس" الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور، وتضمّنت فصولهُ مجموعةً من الدراسات المنهجية لجهوده في الإصلاح والتجديد، في محاولة للإجابة عن أسئلة عديدة، تختصُّ بسمات المنهج الإصلاحي عند ابن عاشور، والأبعادِ المنهجية لتراثه الفكري، والقضايا الرئيسة التي وجهّت تفكيرَه ودارت حولها تآليفُه وكتاباتُه، والإضاءات التي يمكن لهذه الكتابات أن تقدِّمها للعقل المسلم المعاصر، وهموم النهوض الحضاري الإسلامي المنشود.
وقد كشفت هذه البحوثُ عن جوانب مهمّة في مسارات الاجتهاد والتجديد الذي مارسه ابن عاشور، ولا سيّما في مجال بيان القرآن الكريم وعلومه وتفسيره، وتأصيل المنحى المقاصدي في الفقه وأصوله، والتحليل النقدي للممارسات التعليمية والتربوية. وشملت هذه البحوثُ قراءةً في مجمل كتابات الشيخ ابن عاشور، إضافةً إلى مجمل الكتابات التي تناوَلتْهُ بالبحث والدراسة، مما جعل الكتاب مرجعاً شاملاً يُغني عن كثير من الكتب الأخرى في موضوعه.
وقد شارك في إعداد بحوث الكتاب ومناقشتها وتطويرها أكثرُ من أربعين عالماً من علماء الأمة، من أقطار عديدة، فجاء هذا الجهد الجماعي إنجازاً متميزاً يستحقُ القراءة
.



[1] -ملكاوي ،حسن."رؤية العالم والعلوم الاجتماعية"،مجلة إسلامية المعرفة. عدد 42-43(خريف2005)ص57.
[2] -أبو سليمان ،عبد الحميد.الرؤية الكونية القرآنية الحضارية.فرجينيا:المعهد العالمي للفكر الإسلامي، نسخة إلكترونية، 2008، ص19
[3]- شابرا، عمر.نحو نظام نقدي عادل.المعهد العالمي للفكر الإسلامي ودار البشير،الأردن،1990،ص31
[4]- المرجع سابق ص.18
[5]- وهنا ننوه بالمقالة التي طرحها الدكتور فتحي الملكاوي في العدد الأخير من إسلامية المعرفة "التأصيل الإسلامي لمفهوم القيم "وقد تصدى لكثير من معضلات القيم الحديثة لنسبية القيم وإطلاقيتها وازدواجية القيم ومرجعيتها وأشار إلى اضطراب الفكر الغربي بهذا الصدد مما يعطينا مبررا معرفيا لإعادة طرح الموضوع بجدية في الفكر الإسلامي.
-[6] انظر: ميمون، الربيع. نظرية القيم في الفكر المعاصر بين النسبية والمطلقية. الجزائر: الشركة الوطنية للنشر والتوزيع،1980، ص16.
[7]- المرجع السابق ص16.
[8] -وهنا يحضرنا مثال اعتراض BBC على الجزيرة لماذا يجعلون المشاهدين يشاهدون صور الأطفال القتلى في قانة 2006 وفي غزة 2008  لأن ذلك يصدم شعور المشاهد بينما الذي قتل ليس له حرمة فرب عذر أقبح من ذنب.

هناك تعليق واحد:

  1. أكبر تحية احترام وإكبار
    بارك الله فيكم دكتورنا العزيز، موضوعك غاية في الأهمية، والإفادة..دمتم نبعا من العلم لا ينضب.

    ردحذف